JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

بائعتا الحليب والتوت



بقلم الكاتبة الفلسطينية أ.آمنة عواد سليم دغاغمة - صحيفة إنسان


يذكرني طلوع الشمس به, إنه يجثم عل سفح جبل العزة والصمود, يعانق غروب الشمس كل مساء, وعلى الرغم من مساحته البسيطة إلا أنه يضم قلوبا اتسعت لتحمل جراح الوطن المسبيّ, إنه مخيم العروب.

ولدنا من رحم المعاناة , وعشنا الحاضر بألم الماضي, وذكريات الطفولة تنمو كأشباح نصب أعيننا ولا تفارقنا ,جعلنا الريح أشرعة لمراكبنا لترسو على برّ الأمان, ترقبنا الفجر ليلقينا في أحضان النهار, كم نحمل في طياتنا أحداثا ينوء لها البشر .

كنا صغارا نعرف الفرح من زوايا عيون الأمهات ,والألم من تنهيدات حزن الثكالى ,أجساد آبائنا يمزقها الشقاء,  والاحتلال يطاردنا في تلك الأزقة التي يفوح منها عبق الذكريات المكتظة.

وقبل أسبوعين طويت صفحة الليل على عجل , وقررت الذهاب إلى المخيم , وفي الصباح وبعد إعلان يوم جديد احتسيت قليلا من الهواجس والتردد للذهاب إلى المخيم. كنت عالقة في منتص القرار, وحسمت الأمر في الذهاب صباحا .

وصلت المسجد الكبير , وفي كل زيارة أجد ملامح المخيم قد تغيرت , إلا أن الأماكن فيه تشعلنا جمرا وتوقد في جوانحنا الذكريات .يا لها من صدفة ..رفقا أيتها الأقدار إنها( ياسمين) صديقة الطفولة والمدرسة حتى إنهاء  الدراسة الجامعية , كم كانت جميلة , وجنتاها ورديتان , جدائل شعرها كسنابل قمح تركت بلا حصاد, صفاء عيونها كالمدى عندما ينقشع الضباب .نعم إنها ياسمين والتي لم يكتب لي رؤيتها منذ عقدين من الزمن, وعلى الرغم من التحذيرات  بسبب الجائحة إلا أن العناق كان مطولا ممزوجا بفرحة اللقاء تناولنا أحاديث وقصصا عفا عليها الزمن, وفجأة لاحظت في عيونها ألما حاولت تذكيري به , حاولنا جاهدتين أن نبتعد عنه, جلسنا على حافة سور المسجد من الناحية الغربية الخالية من المارة والذي تشرف عليه مقبرة المخيم المتاخمة للأحراج .

تنهدت بحزن دام وارتعشت يداها وقالت وعيونها تنظر صوب المقبرة: آمنة .وصمتت في وجوم فهمت منها كل شيء. قلت لها :والله يا ياسمين ما نسيت ذلك أبدا ولم تغب عن بالي. وبدأت الذكريات تجول في مخيلتي وتذكرت الحادثة.

كنا وقتها في الصف السابع من العام 1978أعمارنا طفولية لم نتعد ثلاثة عشر عاما ولكن تفكيرنا أوسع من ذلك, تتأرجح أحلامنا على حبال الأمل .كنا نحاول المشي بحذر حتى لا تصحو الذكريات من سباتها .

في صباح أحد الأيام جاءت ياسمين متأخرة أوقفتها المعلمة المناوبة وأرسلتها إلى المديرة  ؛ لتنال عقابها_ أذكر وقتها أن العقاب هو تنظيف الساحة كاملة_.

كم كانت حزينة عند دخولها غرفة الصف , شعرت أنها تحاول لملمة جراحها بعيون يشع منها غضب الأيام, وما أن انتهت الحصة اقتربت منها أستوضح سبب التأخير , قالت لي  :كنت أبيع الحليب كالمعتاد قبل المجيء.

قلت لها :أعرف يا ياسمين ولكن حاولي عدم التأخير.

قالت :والدتي مريضة هذا الصباح,  وجارتنا (أم محمد) من قامت بحلب البقرة , وهي لا تجيد طريقة الحلب كأمي.

وتدور الأيام ونحبك خيوط الأمل من آهات السنين , ونتحمل منذ نعومة أظفارنا مسؤولية الحياة ,ونتفق معا في العطلة الصيفية على بيع التوت والحليب ,أستفيق مبكرة أقطف ثمار التوت حيث أضعها في سلة خشبية واسعة , ومعي كوب بلاستيكي استعين به كميزان يتسع لنصف كغم.

ياسمين تحمل دلو الحليب , ومعها كوب آخر للوزن. كم كانت تلك الأيام حلوة على الرغم من مر السنين , إلا أنني أشعر بفرحة عارمة عندما كنت أشتري أحلامي بسلة دعاء .دعاء جدتي _ الله يرحمها _التي كان دوما يلهج لسانها بالدعاء لي , وشجرة التوت ملك لجدتي ,شجرة جذورها في الأرض وفرعها في السماء , نستظل تحتها طيلة الصيف ,تتربع على مساحة واسعة ,كل المارة يتذوقون  ثمارها, تجاوز عمرها الثلاثين عاما وجدتي تكبرها بأربعين عاما أخرى ,وقد كانت جدتي كلمتها مسموعة أكثر من أمي فهي مسؤولة عن تربيتنا لا سيما الأم _ـرحمها لله _كانت  تتنقل ما بين المخيم وقرية الرماضين, كنا نهابها ,عجوز تحكم قبضتها على تلك القروش ,لكن عوضتنا حنان الأم المفقود أحيانا, وتعطيني آخر الأسبوع حصتي من القروش ,كانت توزع  التوت على الجيران .

 وتقول جدتي دوما : خلي الناس تاكل الله يطرح البركة .

وتمضي الأيام ..ونتشبث بخيوط الأمل من جديد, ونلتقي أنا وياسمين صباحا عند دكان العم أبو نعيم ؛ لننطلق من تلك النقطة , كنت أضع قماشة لونها خمري على برج تلفزيوني قديم فوق دار أخي؛ كدلالة تعرف من خلالها أنني خرجت من البيت فتخرج ياسمين فورا.

وفي صباح يوم الخميس من ذلك اليوم الحزين ذهبت كالمعتاد إلى نقطة الانطلاق ولم أجدها, انتظرتها طويلا ولم تصل, وكانت كل محاولات الانتظار بائسة, تركت المكان متجهة  ومعي سلة التوت إلى عجوز كانت قد أوصت جدتي بها قبل يومين, قرعت الباب الخشبي كان قد صنعه زوجها من خشب النجارة البسيط فكان من السهل أن يفتح .لأجد العجوز حاضرة , أدارت التوت في  وعاء آخر وأعطتني بضع قروش وأحكمت قبضة يدي عليهن وقالت : سلمي على جدتك .

جسدي كان وقتها يتأرجح على حبال الخوف أحاول أن أرى بصيص أمل من بين شقوق الخوف يطمئنني عن سبب غياب ياسمين ,وتتكدس كل الاحتمالات في ذاكرتي.

أمعقول ماتت البقرة  ؟ مصيبة إذا حصل ذلك فالعائلة تعتاش منها .

هل أمها مريضة ؟ إذن لماذا لم تتواجد في المكان  ؟

خنقتني الحروف ولم أستطع التفكير. نهضت من زحمة التساؤلات وانا أتابع سيري للبيت.

كان صباح يوم الخميس من شهر تموز من العام 1978م وصلت البيت الكائن بالقرب من الأحراج والتي تعرف بأحراج مخيم العروب, أحراج أشجارها كثيفة ملتفة مثل البلوط والصنوبر والقيقب, وهي تقابل تماما المخيم .وهي المتنفس الوحيد للعائلات للهروب من ضوضاء المخيم ليجدوا فيها ملاذا للراحة في أيام العطل من ناحية ,وتشكل العصب الرئيس لجلب الحطب صيفا وشتاء لأهل المخيم من ناحية أخرى.

سلمت النقود لجدتي وهي تنتظرني تحت شجرة التوت , وأعطتني حصتي فهو يوم الخميس كالمعتاد تعطيني في هذا اليوم فقط, لكني رفضت, وخبرتها غياب ياسمين .

قالت لي: يا جدة , ياسمين من زمان طلعت هي وأختها يلي أجت من الأردن على الأحراج يجيبن حطب. فرحت وقفزت عن الأرض أقبل جدتي , وجلسنا تحت شجرة  التوت التي تقع محاذية للطريق المؤدي للأحراج.

لاحظت مرور أشخاص من أهل المخيم أغلبهم من عائلة ياسمين, تتبعتهم بنظري حتى وصلوا مدخل الأحراج , قلت لجدتي :أرى أناسا عند الأحراج وطلبت منها أن أذهب فرفضت بداية الأمر وقالت :يمكن يهود بيفتشوا عن فدائيين. وهذه عادة متبعة كانت عند الاحتلال.

وبعد إلحاح شديد ومحاولات أثمرت أكلها ,وافقت بشرط أن تصاحبني هناك, شعرت بظلمة الطريق على الرغم من وضح النهار, حاولت أن أنثر أقمارا لتزيد الطريق وضوحا.

وصلنا المكان (الأحراج ) الذي يبعد عن البيت مسيرة سبع دقائق ,نهضت من زحمة القلق لعلي أفهم شيئا من أحاديث المتواجدين هناك.

يا وجع قلبي ,يا إلهي, من تلك التي تضع رأسها بين كفيها ؟ جثوت على ركبتي كساجد خاشع أمامها واضعة يديّ على كتفيها وهي تنحب من أعماقها.

قلت :ياسمين ماذا حصل ؟ حاولت لملمة قواها وقالت : أختي آمنة وبدأت تصرخ.

نظرت إلى أبعد مدى وسط المحتشدين ,وإذا بابن الجيران (نصري ) شاب يافع مفتول العضلات عريض المنكبين يحمل فتاة بين يديه, قميصه كان مدرجا بسيل من الدماء, شعرها قد انسابت منه خصلات من تحت الحجاب بعفوية وقهر, منديلها ملطخ بالدماء , ليصل بها أكثر من منتصف الطريق حتى أخذتها سيارة للمشفى.

آمنة , وما أدراك من آمنة ,إنها أخت ياسمين ,أنهت دراسة السنة الأولى في إحدى كليات الأردن ,جاءت في العطلة الصيفية مع لداتها من بنات المخيم لقضاء العطلة الصيفية بين أهلها. لتساعدهم في تأمين لقمة العيش , نهضت مبكرة لتقابل القدر هناك , طلبت من ياسمين أن تجمع الحطب بعد أن تسقطه لها من أعلى الشجرة ,ولكن هي من سقطت من أعلى الشجرة ولسوء حظها كان ارتطامها على صخرة لا ترحم . فكانت شهيدة لقمة العيش.

يا إلهي, تسابيح المسجد بدأت معلنة آذان الظهر ونحن ما زلنا نجلس على حافة سور المسجد المنخفضة من الجهة الغربية بعيدة عن مدخله , فانقطع حبل الذكريات . وأخذت كل واحدة فينا ترسم ابتسامة ملء الأشداق عريضة  مترعة بأمل المستقبل .مودعين بعضا بباقة من حنين.

الاسمبريد إلكترونيرسالة