JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

رحلة إلى السماء




بقلم أ. لعجال ماريا - صحيفة إنسان

 

لا يَزالُ وَقْعُ نَبَأِ المَوْتِ يَرِنُّ داخِلَ سَرادِيبِ عَقْلِي كَأَجْراسٍ داخِلَ كَنِيسَةٍ، بَيْنَ تَصْدِيقٍ جازِمٍ لِمَشِيئَةِ اللّٰهِ وَنَفْيٍ قاطِعٍ لِتَفادِي أَلَمِ الفَقْدِ وَمَرارَتِهِ. أَذْكُرُ مَرَّةً فِي صِغَرِي... ذَهَبْتُ مَعَ جَدَّتِي لِإِحْدَى الجَنائِزِ، كانَ فِناءُ المَنْزِلِ مُمْتَلِئاً بِالشُخُوصِ الغَرِيبَةِ، وَكانَ هُناكَ فِي رُكْنٍ ما مِنْ أَرْكانِ البَيْتِ اِمْرَأَةٌ تَبْكِي وَحَوْلَها فَوْجٌ مِنْ النِسْوَةِ يَتَساقَطْنَ فِي حِجْرِها الواحِدَةِ تَلْوَى الأُخْرَى، وَيَبْكِينَ مَعَها البُكاءَ المَرِيرَ، وَمِنْ هَمْهَماتِ الكَلامِ فَهِمْتُ أَنَّها زَوْجَةُ المَرْحُومِ، وَأُخْرَى عَلَى مَقْرُبَةٍ مِنْها عَرَفَتْ أَنَّها اِبْنَتُهُ، غَيْرَ أَنَّها لَمْ تَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، وَلَمْ تَبْكِي كَالأُخْرَياتِ تَجْلِسُ القُرْفُصاءَ، وَلَيْسَتْ بِالوَحِيدَةِ بِجِسْمٍ مُتَصَلِّبٍ كَالمُومْياءِ مُحَنَّطَةٌ وَعُيُونٌ غائِرَةٌ وَنَظْرَةٌ ثابِتَةٌ، فَكُنْتُ أَظُنُّها تُحَدِّقُ فِي وَجْهِي، إِلّا أَنَّها تَنْظُرُ فِي اللاشَيْءِ، وَالنِسْوَةُ تَتَهافَتُ عَلَى أَكْتافِها النَحِيلَةِ يَلْطِمْنَ وُجُوهَهُنَّ، كَمْ كُنْتُ أَسْتَغْرِبُ النِساءَ الناحِباتِ فِي المَآتِمِ اللّاتِ يَبْكِينَ بِحُرْقَةٍ، بِالرَغْمِ مِنْ أَنَّ الفَقِيدَ لَيْسَ مِنْ أَقارِبِهِنَّ، إِلّا أَنَّهُنَّ يَبْكِينَ بِذاتِ المَرارَةِ الَّتِي تَبْكِي بِها عائِلَةُ المَيِّتِ. كانَتْ قُدُراتِي عَلَى الاِسْتِيعابِ آنَذاكَ عَصِيَّةً عَنْ فَهْمِ أَوْجاعِهِنَّ، وَأَتَساءَلُ بَيْنِي وَبَيْنَ ذاتِي لِماذا تَبْكِي الجارَةُ وَالخالَةُ وَالعَمَّةُ فَالمَيِّتُ لَمْ يَمُتْ، بَلْ صَعَدَتْ رُوحُهُ إِلَى السَماءِ، وَأَنَّ اللّٰهَ يَأْخُذُ بِيَدِهِ إِلَى الجَنَّةِ، وَأَنَّهُ سَوْفَ يَأْتِي ذٰلِكَ اليَوْمَ، وَنَلْتَقِي الأَحِبَّةَ الَّذِينَ غادَرُونا فَلِماذا البُكاءُ! أَوَلَيْسَ اللّٰهُ أَرْحَمَ وَأَلْطَفَ بِعِبادِهِ وَلَنْ يُؤْذِيَهُمْ! وَكَطِفْلَةٍ بَرِيئَةٍ فِي سِنِّ الخَمْسِ سَنَواتٍ سَأَلْتُ جَدَّتِي عَنْ مُعْضِلَتِي الصَغِيرَةِ، وَكانَتْ هِيَ الأُخْرَى بَكَتْ عَلَى شَخْصٍ لَيْسَ مِنْ أَقْرِبائِها لا مِنْ بَعِيدٍ وَلا مِنْ قَرِيبٍ. حَدَّثَتْنِي يَوْمَها قائِلَةً إِنَّ المَرْأَةَ إِذا بَكَتْ لا تَبْكِي عَلَى المَيِّتِ فَقَطْ، بَلْ تَتَذَكَّرُ جَمِيعَ أَوْجاعِها وَمَنْ فَقَدَتْهُمْ تَتَذَكَّرُ أَباها الَّذِي تُوُفِّيَ وَجْدُها الَّذِي قُتِلَ وَتَبْكِي لِأُمُورٍ أُخْرَى لَنْ تَفْهَمِيها الآنَ. حِينَها تَرَدَّدَتْ بُرْهَةٌ، وَحَمْلَقْتُ فِيها بِاِسْتِغْرابٍ، وَسَأَلَتْها لِماذا كُلُّ مَنْ فِي البَيْتِ يَبْكِي إِلّا اِبْنَتَهُ؟ هَلْ كانَتْ تَكْرَهُ والِدَها، وَلَمْ تُشْفِقْ عَلَيْهِ حَتَّى فِي مَوْتِهِ؟ قالَتْ بِحَسْرَةٍ إِنَّ جَوابَ هٰذا السُؤالِ فِي تِلْكَ الأُمُورِ الَّتِي لَنْ تَفْهَمِيها الآنَ. كَبُرَتْ وَعَلِمْتُ الآنَ أَنَّ المَرْأَة إِذا تَأَلَّمَت اِسْتَدْعَت أَحْزانَها كُلَّها، وَعَلِمَتْ أَنَّ المَيِّتَ لَنْ يَعُودَ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ ماتَ دَخْلَ الجَنَّةَ، وَأَنَّ البِنْتَ الَّتِي لَمْ تَبْكِي عَلَى والِدِها لَيْسَ لِأَنَّها اِرْتاحَتْ مِنْهُ، وَلَمْ تَفْتَقِدْهُ بَلْ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الصَدْمَةِ أَقْوَى مِنْ أَنْ تَسْتَوْعِبَ فِكْرَةَ رَحِيلِهِ المُفاجِئِ، وَأَنَّها هِيَ ذاتُها فِي وَفاةٍ أُخْرَى سَوْفَ تَبْكِي وَتَسْتَرْجِعُ أَحْزانَها، وَتَنْفَتِحُ جِراحُ قَلْبِها عَلَى مَصْرَعِيْها فِي كُلَّ مَرَّةٍ. هِيَ ذاتُها عِنْدَ سَماعِها لِكُلِّ وَفاةٍ تَهْرَعُ فِي أَحْضانِ الفاقِدِينَ تَرْثِي والِدَها وَتَسْتَرْجِعُ مَآسِيَها. فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ لَمْ يَبْكِ لا يَتَأَلَّمُ وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ بَكَى تَأَلُّمَ لِذاتِ الأَلَمِ فَالآلامُ تَخْتَلِفُ وَالأَسْبابُ تَتَعَدَّ، لٰكِنْ المَوْقِفُ الَّذِي أَنْزَلَ الدَمْعَةَ كَفِيلٌ بِتَفْجِيرِ ما يَحْمِلُهُ الصَدْرُ مِنْ غُصَّةٍ وَحَسْرَةٍ. كل الحَقائِقُ تَغَيَّرَتْ بِمُرُورِ السِنِينَ إِلّا المَوْتُ بَقِيَ بِذاتِ الهَيْبَةِ وَالرَهْبَةِ عَلَى مَرِّ العُصُورِ، وَإِلَى يَوْمِ البَعْثِ، رَحِمَ اللّٰهُ أَرْواحاً فَقَدْناها وَلَنْ تَعُودَ."

الاسمبريد إلكترونيرسالة