JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

-->
الصفحة الرئيسية

" تعويض "




    بقلمِ الكاتبة  نور الهدى شاهين - صحيفة إنسان


كنتُ دائمًا تلك الإنسانة المُبتلَيَة ، تلك الإنسانة التي لا يزورُها الفرحَ ولا يكادَ يلبثُ وقتًا قصيرًا وتزولُ قطراتَه تلْك ، حياتِي مِلؤُها الأحزان والهموم ، بدأت بوفاةِ أمي وحتى زواجِي مِن ذلك الرجل الذي لا يعرِف للمرأةِ أيَّ احترامٍ أو تقدير .. 

عندما كُنت فِي السادِسةِ عشرَ من عُمري ، أُصيبتْ أُمي بِمرضٍ أوْدَى بـحياتِها وحياتِنا إلى الجحيم ، مرضٌ شديدُ الفَتْكِ ، سريعُ الجريانِ والانتشارِ في الجسد ، قويُّ الألم ، 

كلّما رأيت أمي تتوجّع ينفلِقُ قلبي نِصفَين ، أوَدُّ لو أنني أسرقُ المرضَ منها سرقةً وأُرِيحُها من كلّ الأوجاع والآلام ، 

أبي كان يتذمّر من مرض أمي ، من آهاتِها ومن عجزِها عن القيام بأعمال البيت بسبب المرض ، ومن كثرةِ الأموال التي كان يصرِفها على الأدوية والعلاجات ، أزدادُ أنا وجعًا هنا ، كنت أستغرِب وأستعجب ، وأحدّثُ نفسي : ألَا يعلمُ أبي بأن هذا قدرُ الله وقضاءه وعليهِ الصبر ! كنتُ لِأمي اليدِ اليُمنى ، كنت دائمًا ما أدعو الله بأن يُخفف عنها العذابَ التي تمرّ به يوميًا ، وبأن يَمُنَّ عليها بالشفآء .. 

 لمْ يكن لي أخواتٌ بنات ، كنّا ثلاثَة أولادٍ وأنا البنتُ الوحيدة ، إخواني كانوا قاسيين عدا واحدٍ منهم ، كانوا مُنشغلين بسَهَراتهم خارج البيت ، منشغلين بحياتهم وأعمالهم ، لا يروْنَ أمي سوى آخرِ الليلِ بعدما ينتهوا من أعمالهم وأشغالهم ، وكأنّ هذه الأعمال أهمّ من أمّهم التي سهِرت وتعِبت لكي تربِّيهم ، ومن ثمّ ماذا! يتركونها عندما يشُبُّون؟! أهكذا تُجزى الأمّ! أهكذا تُجزى من أفنَتْ حياتها لأجلنا!

لا أعلم حقًا ما هذه القلوب الجاحدة ، كنت أنا وأخي الأصغر فقطْ مَن نحِنُّ على أمي ، أنا وهو فقط من اكتسَبنَا منها حنانَ القلبِ ورقّتِه .. 

أنا أقوم بأعمال البيت جميعها ، وأخي هو مَن يذهب إلى الصيدلية لشراء الأدوية لأمي ، وهو من يذهب معها دائمًا إلى المشفى لإجراء الالتزامات ولمراجعة الطبيب .. 

ثمّ جاء اليوم الفاصل ، كنت حينها في الثامنة عشر في الثانوية العامة ، اليوم الذي انتُزعت فيه روحي من جسدي ، استيقظتُ صباحًا على صوتِ صراخِ أخي وقد تُوفّيت أمي!!! تُوفّيت قطعة من روحي بل روحي بأكملها ، انطفأ نور البيتِ ، و وقعتْ شمعةُ قلبي أرضًا ثمّ تلاشى نورُها!  

مرّت عليّ أيام وليالٍ كِدْتُ أشهقُ فيها شهقةَ الموتِ ، أيامٌ من أصعب وأقسى أيام حياتي ، رأيت فيها الجحيم ، 

لا أعلم ماذا أفعل وكيف أُكمِل حياتي بعد موتِ حبيبتي ، وكيف أُكمل مسارَ الثانوية العامة ، المشكلة الأكبر أنني في الثانوية العامة ، المرحلة الأهم في حياة الطالب..

حاولتُ مع نفسي كثيرًا ، واستجمعتُ قُوَاي ، وأخذتُ عهدًا على نفسي بأن أفعل كل ما في وُسعي لكي أتخطّى هذه المرحلة ، وأجعل نجاحي بمثابةِ برٍّ لأمي وهي في قبرِها ،

إنْ لم أستطع أن أُفرّحها في حياتها فلْأُفرّحها في قبرها ، كم كانت متشوِّقةٍ لرؤية نجاحي ، آآآآه يا أيام ما أقساكِ ، 

لكن ماذا أقول هذا قدرُ الله ، علينا أن نصبرَ ونحتسب كلَّ أوجاعنا ، دعوتُ الله كثيرًا وكثيرًا بأن يرحم أمي ويُلهمني السلوان على فراقِها وأن أتجاوز هذه المرحلة الحسّاسة ؛ فِهي كالصخرة على قلبي .. 

مرَّ عزاء أمي ، وانقشعَ شعاعُ الناس والآخرين من حولي ، شعرتُ بالوِحدة وقتَها فعلًا ، فـ أمي كانت بجانبي دومًا ، والآن أنا وحيدة في هذه الدنيا ، شعرتُ بأن إحساس الإحباط بدأ بالترعرعِ في قلبي ، لكنّي كلّما أُحبَطُ أتذكر بأني وعدتُ نفسي وأمي بأن أفرّحها في نجاحي ..

بدأت بترتيب حياتي ، كلّما اشتقت لأمي أُذكّر نفسي بأنّها في مكان أفضل من الدنيا بكثيير ، وبأنها عند اللهِ ، في الجنة بإذنه تعالى حيث لا مرضَ ولا تعبَ ولا شقاءَ مثلما كانت في الدنيا ، هذا ما كان يصبّر قلبي على فراقها ، 

بدأت بعمَل جداول للدراسة ، كانت المرحلة صعبة جدًا ، فـ أنا كنتُ أصارعُ مُصارعةً ، ذاكرتُ ودرستُ كثيرًا ، استعنتُ بصديقتي في المذاكرة ، وجاءت أخيرًا مرحلة الاختبارات في نهاية السنة ، كنتُ أذاكر بقدرِ ما أستطيع وأذهب لتقديم الاختبارات ، واجتزتُ الاختبارات ، ما كان يُهمُّني هو النجاح ، النجاحَ لا المجموع .. 

جاءت لحظةُ ظهور النتيجة وظهرت نتيجتي ناجحة ، نجَحت وأخيرًا ، أنهيتُ مرحلة الثانوية بنجاح و بحمد الله ، فرحتُ و الغصّةُ في قلبي ، لمْ يُشعرني أحدٌ بالفرحة سوى أخي الأصغر ، فـ على الأقل لمْ أجدُ من يُهوّن عليّ فراق أمي وهي التي كانت تنتظر لحظة نجاحِ ابنتها !.. 

بعد الثانوية بدأ الناس يتقدمون لي من أجل الزواج ، 

وشعرتُ وكأنَّ أبي كان ينتظر هذه اللحظة ، تقدّم لي شابٌ وطلب يدي للزواج ، وافق أبي عليه دون أن يترك لي الفرصة للتفكير ، فقط قال لي هناك من يريدك للزواج ، وبعدها بأيامٍ مباشرة تمتْ قراءة الفاتحة ، بأقصى سرعة ، وبدون أن يسأل عنه أبي بدقّة ، أخي كان يعلم مدى حُزني ورأيتُ في عينيه إشفاقه عليّ وفي نفس الوقت كان مُستغربًا من سرعة موافقة أبي على الشابّ ، 

لا أحد فينا يعلم ما يفعل ، كلام أليف كالسيف لا أحدَ يستطيع قطعَه ، كلّ دعواتي في هذه الفترة كانت بأن تمرّ  الفترة على خيرٍ ، وأن يكونَ الشابّ خيرٌ لي ، رغم أني لم أجد وقتًا للتفكير ولا لشيءٍ ، ولم يكن الزواج في بالِي حينها ، كنت أطمحُ لأن أكمل دراستي الجامعية .. 

تزوّجتُ ، ولمْ أكن أعلم بأن هناك أيامٌ شديدةُ القسوة تنتظرني ، تزوجت ورأيتُ جحيم الحياةِ حقًّا ، لم يكن ذلك الرجل الذي كنت أريدُ مواصفاته ، كان رجلًا شديد الغِلظَة والمعاملة ، دائمًا ما يُوبّخُني على أتفهِ الأسباب ، ولم يسمح لي بإكمال دراستي الجامعية حتّى ، كان زواجي منه كالكابوس .. 

أنجبتُ منه ثلاثة أطفالٍ ، عِشْتُ معَه وفي كلّ يومٍ كنت أضعُ اللومَ على أبي لأنه هو السبب في ذلك ، لم يتريّث في السؤال عنه وعن أخلاقه ، ما إن أتى إلى بيتنا ورمانِي له وكأني عبءٌ عليه ، أبي يظلّ أبي وأحترمه ، لكنّي سأبقى طوالَ حياتي وأنا حادّة على موقفي منه ، وعلى ما جرى بي بسببه .. 

فـ الزواج نفسه ليست المشكلة ، المشكلة تكمُن في اختيار شريك العُمر ، كان من المُتوّجب على أبي أن يسأل عنه كثيرًا ، ويتفحّص حياته كيف هِيَ ، وأخلاقه ، ومدى قُربه من الدين ومن الله ، ومدى فهمه للحياة ، لكنْ أبي لمْ يكن يهمّه هذه الأمور ، جُلّ اهتمامه بأن يُزوّجني ..! 

مرّت عليّ أيامًا معَه ، من شدّة صعوبتها ظننتُ بأني لن أرى النورَ بعدَ ذلك ، حتّى هدَانِي الله إلى التفكير في حفظ كتابه ، قررتُ ألّا أستسلِم للواقعِ أكثر من استسلامي هذا ، 

وأن أبدأ بفعلِ أشياءٍ أنشغلُ بها عن واقِعي الأليم ، 

لمْ أحتمل العيش مع زوجي أكثر من هذه السنين التي مضت ، فهو إنسان لا يُعاشَ معه أبدًا ، تمنّيتُ لو أنه كان رجلًا جيّدًا ، لكنْ أقول مرة أخرى هذا قدرَي ، ولا أعلم متى ستُفرجَ عليَّ مأسآتي ، طلبتُ منه الطلاقَ وتمسّكتُ بأولادِي ، تمسّكتُ بهم أيُّما تمسُّك ، وبعد 3 سنين من الصراع والمعاناة تطلقْتُ منه أخيرًا وأخذتُ أولادي في حضنِي ، وانتصرتُ على القانون الذي يُقيّد المرأة ويجعل الأولاد في حضن أبيهم ، حينَها أحسَسَتُ بأن فرجَ الله بدأ بالسّرَيانِ في حياتي .. 

بدأت بحفظ القرآن وجدتُ فيه راحةً لم أشعر بها في حياتِي قَطٌّ ، وعَزَمْتُ على إكمال دراستي الجامعية ، رغم أنّه مضت سنين عديدة على إنهائي للثانوية العامة .. 

اخترتُ التخصص الذي أُحبّه ( ترجمة لغة إنجليزية ) ،

شَرٕعتُ في دراسته ، كانت بداية الأمر صعبًا لأني نسيت أساسيات المناهج والدراسة بسبب ما مررتُ به ، لكن خطوة خطوة تتلاشى الصّعوبات ، أنهيتُ السنة الأولى وشرعتُ في السنة الثانية واستمتعتُ في دراسةِ التخصص طالما كنتُ أحلُم في دراسته ، كنتُ أُمًّا وطالبةً في آنٍ واحد ، لمْ أستسلم أبدًا لصعوباتِ الأمومة ، كنتُ أُرتّب وأُوظّبُ مهامَ البيت من أعمال ورعاية بالأطفال وأتفرّع بعدها للمذاكرة ، كلّ عزمِي كان على أن أُنهِي مرحلة الجامعة بنجاح .. 

كان أخي يساعدني في تسديد رسوم الجامعة ، فهو الوحيد الذي ما زِلتُ أشعر بأنّه من رِائحةِ أمي ومن رائحةِ حنانها ، تبَبّتْ جميعاتٌ خيرية بعضًا من  مصاريفَ أولادي .. 

جاء اليومُ الذي ولِأول مرةٍ أشعر فيه بالفرح ، أتممتُ حفظ القرآن ولله الحمدُ والمنّة ، ثبّتُه في صدري وثنايا قلبِي ، فهو أُنسي وراحة عقلي في أيامي العِجاف ..

كانتْ نقطة انفرِاج الهمّ عني هو بدايتي في حفظ القرآن ، 

أحسَسَتُ بأن الله فتَح عليَّ فُتوحًا عجيبًا ، يااااه ما أجمل حفظ آياتِ الله 💜 ، حفظُ القرآن يُشعرِك بأنك سعيدًا ولو كنتَ وسطَ الهموم ، يُشعرُك بأنّك شخص مميّز، حفظ القرآن هو اصطفاءٌ من اللهِ للعبد! 

بعدها استمرَّيْتُ في دراستي الجامعية ، مشَت سنينُ الجامعة وكنتُ سعيدة بنفسي ، إلى أن وصلتُ لآخر سنة ، و من ثمّ إلى انتهائي من الدراسة والتخرّج من الجامعة بتقدير امتياز .. 

حققتُ ثانِي أحلامي يآ الله ، ما كنتُ مصدقةً نفسي وأنا في ثوبِ التخرج أثناء الاحتفال ، ولكنْ ما زالت الغصّة عالقةً في صدري ، لا أحدَ معي سوى أخي الأصغر وأولادي الأطفال .. 

أخذتُ راحةً لي سنة كاملة من الدراسة ومن تعبِ الجامعة ، وبعدها بدأتُ بالبحث عن عملٍ لي ، لمْ أوَدُّ الجلوس في البيت وانتظار شفقةِ الآخرين عليّ ، أريد أن أعوّض أولادي مرارة ما قاسوه من أبيهم ، أريد أن أعوّضهم وأعوض نفسي عن كل العذاب الذي رأيته ، وكما أنّي تخرّجُت بمعدل امتياز وأُحبّ تخصصي ومُتشوّقة للعمل ، أريد اشغال وقتي بشيء مفيد ، وأنسَى نظَرات الناس لي لأني مُطلّقة ، دائمًا ما يمضِي ضحية في الطلاق هو المرأة ، يشقُّون لها نظَرات وكأنّها مُجرِمة ، لا أعلم أين الخطأ هنا ، لا أعلم ما ذنب المرأة في هذه الحالة ، كم أتمنّى لو تصبح مجتماعتنا أكثرَ نُضجًا ، وأن تنقشِع من عقولنا هذه النظرة عن المطلقة ، المطلقة ليست عيبًا على المجتمع ، لا يعلمون كم عانيتُ وقاسيتُ مع زوجي ، أنا لستُ مخطئة ، لستُ مخطئة ، كفَى لنظراتِ المجتمع وكلامهم القاسي عن المطلقات ..!!

 جازفتُ وحاربتُ كثيراً ، حتى وجدتُ عملًا بفضل الله ، يآ الله ها هي همومي تنزاحُ عن صدري شيئًا فشيئًا ، أنا التي كنتُ لا أعرف النوم من هَوْلِ أيامي الآن حافظةً للقرآن وأعمل مترجمة لغة إنجليزية على مستوى الوطن ، تعرّفت على زميلةٍ لي في العمل وأصبحتُ أنا وهي كالأخوات ، عوّضتني عن وحدتِي ، أحببتها جدًا وأحبّتني جداً ، عملتُ لسنواتٍ عديدة بعدها فكرتُ في أفتحَ مشروعًا آخر لي ، بالأموال التي تعبتُ بها حمدًا لله ، بدأنا أنا وأخي الأصغر نفكر في مشروعٍ ما ، كما حدّثتكم سابقًا أخي الأصغر هو من كان دائمًا بجانبي وقت الشدة دون إخواني الآخرين ، 

فكّرنا في أن نفتحَ مشروع بيعِ ملابس للأطفال ، عملنا وخططنا كثيرا ، وفتحنا المشروع أخيرًا ، كان هذا المشروع بجانب عملي كـ مترجمة ، ضمِنتُ حياةَ أولادي وحياتي ، يآ الله في كل مرة أنجح بها لا أكادُ أصدق نفسي ، لكنّه كرمُ الله ! 

أنا الآن أصبحتُ أرتشِفُ طعمَ الفرح ارتشافًا بعدما ظننتُ أني لن أتذوّقه .. 

أنا الآن أعيشُ سعيدة مع أولادي برغم فقدي لأمي والغصّة التي لن تخرج من صدري ، وفخورة بنفسي وبما صنعته بقوّتي ، كنتُ دائمًا أستمدُّ قوّتي وصبري من الله ، بدعائي الذي لا ينقطع ..

بعدَ كلّ هذه المغامرات في حياتي ، اقتبَسْتُ حكمةً دائمًا أُحدّث نفسي بها وأُحدّثها للاخرين  (ابتلاؤك اليوم هو سببُ سعادتك غدًا ؛ فكن هادئًا ولا تجزَعْ ) الحكمة التي آمنتُ بها بعد الذي رأيتُه .. 

 • احمِدُوا الله على حياتكم مهما كبرُت مصائبكم ، وتيقّنوا بأن اللهَ لن يتركَ قلبًا شَقِيَ في هذه الدنيا دون تعويضٍ ..!  




الاسمبريد إلكترونيرسالة