بقلم
الكاتبة العراقية أ. مينا راضي - صحيفة إنسان
"عندما
كنتُ في نفسِ سِنِّك، لقد كنتُ كذا و كذا..."
عِبارةٌ
تَوارَثَها الآباءُ و الأجدادُ على مرِّ العُصور، و الغايةُ منها هي التَشجيعُ و
التَحفيزُ للأبناءِ على حدِّ علمِهِم، لكنَّ لهذهِ العِبارةُ مآرِبَ أخرى و وَقعٌ
مُغايِرٌ على نفسِ الابنِ أو البنت. إذ أنها تنشِبُ داخلَ نُفوسِهم نيرانَ
المُقارَنة، و يُطلَقُ على تلكَ المُقارَناتِ مفهوم (المُقارَناتُ السامّة) و ذلكَ
لأنها تَتسَبَّبُ بدَلقِ السُمومِ و المَشاعرِ السلبيةِ مثلَ العار و التأنيب و
جلد الذات و عدم الاستحقاق في نفسِ الأبناء، و كلُّ تلكَ التَراكُمات ترشُقُ
داخِلَ أذهانِهِم فكرةً فَحواها أنهم غيرُ جَديرينَ بالحُب أو التَقدير، فيَنشأون على
تَقَبُّلِ هذهِ الفِكرةِ و الاقتناعِ بها، مما يؤَدّي إلى زَعزَعةِ ثِقَتُهُم
بأنفُسِهم فيميلونَ تدريجيًا إلى العُزلةِ و التَكَوُّرِ على ذَواتِهِم تَحاشيًا
لمَزيدٍ منَ الانتِقاد، أو أنهم يسعَونَ لمَلأ شُروخِ أنفُسِهِم و سَدِّ فَراغِها
عن طريقِ مُمارَسةِ السُلطةِ و الجَبَروت على غيرهم، و كأنهُم ينفُخونَ ذاتَهُم
الخاويةَ باستِمرارٍ لغَرَضِ التَعويض.
منَ الوَعي أن يُدرِكَ الآباءُ بأنَّ الزمنَ ليسَ من ثَوابتِ هذهِ الحياة، بل إن الزمنَ هو أكبَرُ مُتَغَيِّرٍ ماحِقٍ للضَمانات و رادِعٍ للرَتابة. عندما كانَ الآباءُ صِغارًا، و قبلَ دورانِ رَحى التطور التكنلوجي بسُرعةٍ فائِقة، كانت التَسليةُ الوَحيدةُ للشبابِ وقتَئِذٍ هي الدِراسةُ و الاطِّلاعُ و قَضاءُ الوقتِ بينَ الكُتُب، كانَت تلكَ النَشاطاتُ تجعلُ أدمِغةَ الشَبابِ طافِحةً بالدوبامين و إخوانهِ من مُسَبِّبي السَعادةِ و المُتعة. أما في عَصرِنا الحالي، حاصَرَت التكنُلوجيا شَبابَنا من كلِّ حَدب، و لم تكَد تتركُ لهم مَجالًا لتَنَفُّسِ القليلِ من ذَرّاتِ الواقع، أصبحَت الأشياءُ المَلموسةُ و الحَقيقيةُ قَليلةً مُقابِلَ انتِشارِ وَباءِ الافتِراضية. غَدا العالمُ مَليئًا بالشاشات التي تَستَجيبُ في لحظةٍ لنَقرةِ إصبَع. لقد استَحوَذّت جُيوشُ التِكنلوجيا على أغلبِ عُقولِ الشَباب، و أصبَحَت تلكَ الأجهِزةُ مَعالِقَ مَليئةً بالدوبامين بالنِسبةِ لأدمِغَتِهِم المُتَعَطِّشة. لذلكَ فإنَّ أوجُهَ المُقارَنةِ قليلةٌ أو شبه مَعدومة بينَ الآباءِ و أبنائِهِم، لأنَّ الأبناءَ قد تَحَولوا إلى ضَحايا للسَطوِ التكنلوجي، و بالتالي يجبُ على الآباءِ مُسايَرةُ هذا الزَمَنِ و تَقَبُّلُ مِزاجيةِ السنَواتِ و العُقود، لا يجبُ أن يبقوا عالِقينَ في الماضي. يجبُ على العُصورِ القَديمةِ أن تُساعِدَ العُصورِ الجديدةَ على التَطَوُّرِ باستِخدامِ التكنلوجيا، سوفَ يحدثُ التَطورُ و ينشأُ الازدِهارُ عندما تَتَلاقى طُرُقُ الأجيالِ في نُقطةٍ مُعيَّنة، و تلكَ النُقطةُ تُسَمّى مُواكَبةَ التَطوُّر، وذلك يَكمنُ في إذابةِ الأفكارِ المُتَصَلِّبةِ و المُعتَقَداتِ المُتَحَجِّرة و دفعِ الأبناءِ نحوَ الارتِقاءِ بأنفسِهم في الوَضعِ الحالي، إذ أنَّ مواكَبةَ التَطَوُّرِ شقٌّ مهِمٌّ من مَفهومِ الحَداثة.