بقلم رئيس التحرير أ. مصطفى طه باشا
يُعدّ
التناقض بين الأقوال والأفعال؛ أحد أبرز المشكلات السلوكية والاجتماعية التي تُضعف
الثقة بين الأفراد, وتُشوّه المصداقية الشخصية, فكثيرون يتحدثون عن المبادئ والقيم,
ويُطالبون الآخرين بالالتزام بينما يفتقرون هم أنفسهم إلى التطبيق العملي لتلك
القيم, هذا التناقض لا يضر بصاحبه فحسب, بل يمتد أثره إلى المجتمع, مُسببًا حالة
من فقدان الثقة, واهتزاز المعايير الأخلاقية, وتشويه مفهوم القدوة, مفهوم تناقض
الأقوال مع الأفعال؛ هو سلوك يتجلى في عدم انسجام ما يقوله
الفرد مع ما يقوم به, فقد يُعلن الإنسان عن مبدأ, أو يُظهر اهتمامًا بفكرة مُعينة,
لكنّه في الواقع يتصرف بما يخالفها تمامًا, يظهر هذا في مجالات شتى؛ في العمل
والعلاقات الاجتماعيّة والسّياسة والتربية, وحتّى في الدين.
وتُرجّح
الدراسات أسباب تناقض الأقوال مع الأفعال؛ أولًا
ضعف الوعي الذّاتي, حيث لا يدرك البعض الفجوة بين ما يقولونه
وما يفعلونه, فيتحدثون بحسن نية عن قيم يؤمنون بها دون امتلاك أدوات تطبيقها, أو
فهم متطلبات الالتزام بها, ثانيًا الخوف من مواجهة الذات؛ يخشى
بعض الناس الاعتراف بنقص قدراتهم, فيلجؤون إلى الخطاب المثالي لتعويض شعور داخلي
بالعجز, دون محاولة فعلية للتطوير, ثالثًا الرغبة في الظهور الاجتماعي؛ يسعى
البعض لاكتساب احترام الآخرين عبر إطلاق تصريحات أخلاقية أو مواقف بطولية, رغم عدم
امتلاكهم الشجاعة أو الإرادة لتطبيقها عمليًا, رابعًا الضغط الاجتماعي والثقافي؛ في
بعض البيئات الثقافية يُجبر الفرد على إظهار التوافق مع قيم المجتمع لفظيًا, حتى
لو لم يكن قادرًا أو مقتنعًا بتطبيقها, خامسًا غياب القدوة الصالحة؛ حين
يرى الفرد قادة أو مسؤولين يطالبون بما لا يفعلون, فيعيش على فكرة ازدواجية
المعايير, فيتكرر السلوك دون وعي ويصبح طبع لديه, سادسًا الخوف من النتائج؛ قد
يعرف الفرد ما هو صحيح, لكنّه يتجنب تطبيقه خوفًا من الخسارة, أو الرفض, أو
التأثير على مصالحه الشخصية.
هذه
التناقضات لها آثار على الفرد والمجتمع؛ أهمها فقدان
الثقة بين الأفراد, سواء في الأسرة أو العمل أو المؤسسات, وإضعاف القيم الأخلاقية وتحويل
المبادئ إلى شعارات فارغة, وانتشار النفاق الاجتماعي حيث يصبح المظهر أهم من
الجوهر, وتفكك العلاقات نتيجة عدم مصداقية الوعود والمواقف, إعاقة التنمية لأن
الأفكار التي لا تُنفذ تبقى مجرد كلمات لا تبني واقعًا.
ومن
أهم حلول التناقض بين القول والفعل؛ تعزيز الوعي الذاتي؛ عن
طريق اختبار صدق النوايا قبل الحديث، ومراجعة السلوك باستمرار لمعرفة مدى تطابقه
مع المبادئ المعلنة, البدء بخطوات صغيرة حيث لا يحتاج
الإنسان إلى تغييرات جذرية, يكفي أن يبدأ بتطبيق بسيط لما يقول حتى يكتسب عادة
الاتساق, الصدق مع الذات بالاعتراف بالقدرات والحدود الواقعية,
والابتعاد عن المبالغة في الادعاءات, تحمّل المسؤولية
بحيث
كل قول يُعد التزامًا أخلاقيًا, لذا يجب التفكير قبل إطلاق الوعود والآراء, واتخاذ
القرار بناءً على القدرة على التنفيذ, اختيار القدوة الصالحة؛ فالتأثر
بأشخاص يتطابق قولهم مع فعلهم, يُلهم الفرد على الالتزام ويقوّي الإرادة, البيئة
المشجعة على الصدق؛ عندما يتعامل المجتمع مع التطبيق
العملي للقيم باحترام أكثر من مجرد الكلام, سيضع الجميع أفعالهم تحت المجهر.
إن
الانسجام بين القول والفعل ليس مُجرد ميّزة أخلاقيّة, بل هو ركيزة لبناء الثّقة
واستقرار العلاقات, وتحقيق النجاح الفردي والجماعي, فالكلمات قد تُقنع لحظة, ولكن
الأفعال هي التي تُثبت الحقيقة وتُرسّخ التأثير, ولذا فإن كل خطوة نحو الاتساق بين
ما نقوله وما نفعله, هي خطوة نحو مجتمع أكثر صدقًا, وأكثر قدرة على تحقيق طموحاته
وقيمه.
